الأوضاع السياسية في مصر في عهد الفرعون بيعنخي

بحث عن /
الأوضاع السياسية في مصر في عهد الملك بيعنخي
بقلم /
محمد عبد الرازق محمود عطية

مقدمة

تعد فترة حكم الملك بيعنخي من أهم الفترات السياسية في تاريخ مصر الفرعونية، وبخاصة في ذلك العصر الذي كانت تعيشه وهو العصر المتأخر الذي يعد آخر فترات عصر الفراعنة . فقد عاشت مصر قبل عهد الملك بيعنخي فترة طويلة من الاضطرابات والفوضى ، ثم قام الملك بيعنخي بالقضاء على كل هذا من أجل توطيد أركان حكمه في مصر . وتحدثنا آثار هذا الملك عن الأوضاع الداخلية التي كانت تعيشها مصر داخل البلاد قبل وبعد فترة حكم هذا الملك وكذلك تحدثنا عن علاقة مصر بغيرها من الدول المجاورة في ذلك الوقت.
ولقد خلف الملك "بيعنخي" آثارا لا بأس بها توضح بشكل جلي جزءًا عظيمًا من أحوال مصر في عهده، وأهم هذه الآثار والوثائق لوحة جبل برقل الموجودة في السودان، وقبر جواد بيعنخي. فمن خلال لوحة برقل أمكن التعرف على الكثير من الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، ومن خلال قبر جواد بيعنخي أمكن التعرف على الحالة الاقتصادية لمصر في عهد ذلك الملك من خلال الآثار التي عُثِرَ عليها في ذلك القبر.
وقد قسم الباحث هذا البحث إلى فصلين هما :
• الفصل الأول بعنوان "السياسة الداخلية في عهد الملك بيعنخي".
• الفصل الثاني بعنوان "السياسة الخارجية في عهد الملك بيعنخي".





1 -
الفصل الأول
السياسة الداخلية في عهد بيعنخي
من خلال ما ذُكِرَ على لوحة "بيعنخي" الموجودة في جبل البرقل، أمكن التعرف على الكثير من الأوضاع السياسية التي كانت موجودة داخل مصر في عهد بيعنخي، وعلى جزء من سياسة بيعنخي داخل مصر .
ففي بداية القصة المسجلة على اللوحة نعرف أن هناك ملكاً يُدْعَى " تفنحت " قد وصل بجيشه إلى مدينة الأشمونين، وأن حكام الأقاليم الشمالية خاضعون له، مما يدل على أن مصر كانت منقسمة بين ملكين هما "تفنحت" في الشمال و"بيعنخي" في الجنوب، ويبدو من الجملة "الأمير صاحب الأرض الغربية" أن "تفنحت" ربما كان من الليبيين لأنه جاء من الغرب واستولى على الشرق كما تذكر اللوحة(1)، ويؤكد ذلك ما قاله بيعنخي عن جنود تفنحت "أما أمثال الأمراء الذين يمكن أن يتخذهم لمساعدته أو أي جنود لوبيين ممن يوثق بهم"(2) .
وعندما تقول اللوحة "ذهب جلالته شمالاً إلى طيبة"(3) فهذا يعني أن بيعنخي لم يكن مقيمًا في طيبة، بل كانت "نباتا" في السودان لاتزال هي عاصمة ملكه .
من هنا يتضح لنا أن ملك مصر لم يعد مصريًا خالصًا، إنما صار إما ملكًا لوبيًا من الغرب، أو ملكًا نوبيًا من الجنوب . غير أن الملك النوبي "بيعنخي" كان يحكم مصر بصفته فرعونًا مصريًا وليس نوبيًا أجنبيًا، فهو يقول في لوحة "برقل" :
"وعندما تصلون إلى طيبة قبالة الكرنك انزلوا الماء وطهروا أنفسكم في النهر وطهروا أنفسكم في ملابس كتان نظيفة" .(4)
هذا الأمر يرجع إلى أنه نظرًا لتبعية ليبيا والنوبة لمصر طوال عدة قرون، صارت أرض ليبيا والنوبة تعتبر جزءًا من أرض مصر، وصار اللوبيون والنوبيون يعتبرون أنفسهم مصريين، وبالتالي فإن كل نوبي أو لوبي يصل إلى حكم مصر كان يحكم باعتباره ملكًا مصريًا، وباعتبار أن مصر هي وطنه.
• سليم حسن، مصر القديمة، الجزء الحادي عشر، مكتبة الأسرة 2000 ، ص11 .
• المرجع نفسه، ص13 .
• المرجع نفسه، ص17 .
• المرجع نفسه ، ص13 .

2-
ويتضح من لوحة جبل برقل أن مصر في بداية عهد بيعنخي كانت منقسمة إلى جزأين . جزء يحكمه ملك لوبي بصفته فرعون مصري، وجزء يحكمه ملك نوبي بصفته فرعون مصري أيضًا ، وكان الطرفان يتصارعان من أجل السيطرة على أرض مصر كلها. وتذكر لوحة بيعنخي أن الملك اللوبي "تفنحت" هو من بدأ الصراع، ثم خرج جيش "بيعنخي" لملاقاته فانتصر عليه وتم له توحيد مصر كلها تحت لوائه.(1)
أما أمراء مصر وحكام الأقاليم، فهم ليسوا على ولاء لأي من الملكين. فهم يعلنون خضوعهم للملك المنتصر أيًا كان. فنحن نجد الملك "بيعنخي" يقول في لوحة جبل برقل أن الملك "تفنحت" حين أتى من الأرض الغربية بجيشه كانت البلاد تسلم له دون قيد أو شرط، وأن نمروت حاكم الأشمونين حين رأى جنود تفنحت ترك ولاءه لبيعنخي وأعلن ولاءه لتفنحت خوفًا منه.(2)
وتوضح لوحة برقل في ثنايا الحديث الآثار التي تعود على الناس المصاحبة للحروب في العادة. فهو عندما يتحدث عن قيام الجيش بحصار بلدة ما، مثل قيام تفنحت بمحاصرة إهناسيا يقول "فلم يجعل الخارجين يخرجون، ولم يجعل الداخلين يدخلون لاستمرار الحرب يوميًا".(3) وعندما أمر بيعنخي جنوده بالانقضاض على مقاطعة الأشمونين قال "اقبضوا على أهلها وماشيتها الذين على النهر، ولا تجعلوا الفلاحين يخرجون إلى الحقول ولا الحراثين يحرثون الأرض". (4)
ونجد الملك هو من يضع خطة الحرب بعد أن يستشير قادة الجيش، وتوضح اللوحة أن قوة الجيش تعتمد على قوة وحنكة الملك حيث يقول القادة للملك بيعنخي "لا يتغلب جيش يكون قائده مخنث"، وأن قادة الجيش مخلصون للملك ويطيعون أوامره.(5)



• المرجع نفسه ص11 .
• المرجع نفسه ص12 .
• المرجع نفسه ص11 .
• المرجع نفسه ص12 .
• المرجع نفسه ص13 .

• 3 -
من خلال كل ما سبق يتضح لنا أن مصر في عهد الملك بيعنخي كانت تعيش مرحلة انتقالية من حكم الفراعنة الليبيين إلى حكم الفراعنة النوبيين،وأن هذه المرحلة تطلبت صراعات داخلية مسلحة بين أمراء مصر كافة، مثلما حدث في عصر الانتقال الأول حين شب الصراع بين أهناسيا وطيبة. نتج عن هذا الصراع بالطبع توقف العمل والإنتاج في جميع أنحاء مصر بسبب الحروب والمعارك الطاحنة التي كانت تدور بين أطراف الصراع في جميع أنحاء مصر.
ورغم ذلك يبدو مما يقوله نص لوحة برقل، أن الحالة الاقتصادية في مصر في ذلك الوقت كانت مزدهرة. إذ يقول النص أن كل مدينة كان بيعنخي يستولي عليها كانت تدفع له الجزية من الذهب والفضة واللازرود أو من الماشية والخيول والغلال.(1)
وهذا الازدهار الاقتصادي الذي كانت تعيشه مصر يتضح أيضًا من الآثار التي تم العثور عليها في قبر جواد بيعنخي، حيث عُثِرَ على نسيج دقيق الصنع وعدد كبير من الخرز المصنوع من الخزف المطلي وحلقتين مفرغتين من الفضة المذهبة، وبقايا قطع من عين أوجات من الفضة المذهبة.(2)






• المرجع نفسه ص20 ، 21 ، 23 ، 24 .
• المرجع نفسه ص73 .





• 4 -
الفصل الثاني
السياسة الخارجية في عهد الملك بيعنخي

من خلال ما تم العثور عليه من آثار الملك "بيعنخي" اتضح لنا أن مصر في تلك الفترة – على المستوى الخارجي – كانت تتعامل بشكل رئيسي مع ثلاث دول خارجية هي السودان وليبيا وسوريا.
ففي ليبيا ، كان الأمراء الليبيون يسيطرون على الدلتا ويسعون إلى بسط نفوذهم على مصر كلها، ولكنهم في الوقت ذاته أنعشوا الاقتصاد المصري في تلك المنطقة وهذا يبدو جليًا من الثروات التي كان الملك بيعنخي يحصل عليها في كل بلدة يستولي عليها وهذا ذكرناه آنفًا مما ورد في لوحة جبل برقل.
وفي السودان كان ملوك كوش يسيطرون على مصر العليا وسعوا بالمثل إلى بسط سيطرتهم على جميع أنحاء مصر، ويبدو أيضًا أنهم كانوا في وضع اقتصادي مزدهر وذلك لأن الجيش في عهد بيعنخي كان قويًا لدرجة أنه انتصر في كل المعارك التي خاضها ولم ينهزم في أي منها، وهذا أيضًا مذكور في لوحة جبل برقل. ومن خلال اتصال مصر بالنوبة من الطبيعي أن يكون لها علاقات تجارية ببقية البلدان الأفريقية المجاورة، رغم أن هذا ليس مذكورًا صراحة في الوثائق والآثار التي عُثِرَ عليها في تلك الفترة.
أما عن سوريا، فمن الواضح أنها كانت تربطها بمصر علاقات تجارية توطدت أركانها في فترة حكم اللوبيين للدلتا، وربما استمرت بعد ذلك في عهد بيعنخي، إذ تذكر لوحة جبل برقل أن يعد انتصار بيعنخي على أعدائه وتمكنه من السيطرة على مصر كلها، حُمِّلَت السفن أثناء عودته إلى الجنوب "بالفضة والذهب والنحاس والملابس وكل شيء من أرض الشمال وكل محصولات سوريا وكل الأخشاب الحلوة من أرض الإله" مما يوضح أن مصر كانت تستورد محاصيلا من سوريا والأخشاب من لبنان.(1)

• المرجع نفسه ص34 .

• 5 -


ويبدو أن مصر بعد أن استولى بيعنخي عليها بأكملها قد نعمت في عهده بالسلام والاستقرار، إذ لا توجد وثائق أو آثار تدل على أن الملك بيعنخي قد خاض حروبًا أخرى بعد ذلك، بل صارت العلاقات الخارجية بين مصر وغيرها من الدول المجاورة علاقات سلمية قوامها التحالف والصداقة والنشاط التجاري